كان هناك رجل يعيش في منطقة نائية هو و زوجته و إبنته ذات العشرة اعوام ، كان يحبها يخاف عليها كثيرا ، فكان غالبا ما يمنعها من الخروج للعب مع الاطفال أو لزيارة أقربائها ، و كان هذا يسبب الكثير من المشاحنات بينه و بين زوجته ، فضلا عن مشاحنات اخري بسبب سوء العلاقة بين الزوج و والديه منذ ساءت العلاقة بين العائلتين منذ سنين ، و بعد نقاش طويل اقتنع الزوج و أصبح يسمح لإبنته بالخروج و أصبح الامر عاديا.
وفي يوم من الأيام ذهبت الطفلة لزيارة خالتها و أولاد خالتها في بيتهم في نهاية البلدة الذي يبعد بضعة مئات الامتار عن منزلها ، كانت دائما عندما تذهب إليهم تتخذ طريقا أطول بقليل من الطريق المعتاد ، إنها تخشي ان تمر من أمام ذلك المنزل الذي يقع علي هذا الطريق المعتاد ، كانت فيه أمرأة عجوز دائما ما تنظر إليها و تحملق فيها عندما تمر هي و والديها ، و خاصة اذا مرت وحدها ، كانت تبدو و كأنها تريد ان تخطفها و تبقيها في منزلها.
لكن حدث ما كانت تخشاه الصغيرة ، لقد كانت هناك بعض الاصلاحات تتم في الطريق البديل مما منع المرور عبره نهائيا... لم يبق إذن سوي ذلك الطريق الذي تخافه ، إما ان تسير عبره ، او ان ترجع إلي منزل ابيها ، لكنها قطعت مسافة طويلة لكي تري خالتها و أولاد خالتها.
لا ... هي لن تعود إلا بعد زيارتهم ، ستمر عبد ذلك الطريق ، ثم تقضي تلك المسافة التي يطل عليها بيت تلك العجوز المخيفة ركضا.
إتخذت قرارها ثم مضت ، حتي اقترب المنزل فانطلقت تعدو و هي ترجو ألا تراها تلك العجوز ، إلا انها و هي تعدو بجوار المنزل اختلست نظرة إليه ، فإذا بتلك العجوز و هي تنظر إليها من النافذة نظرة ... لم تعرف أبدا معناها ، و فجأة انصرفت العجوز من النافذة لتتسائل الطفلة إلي أين ذهبت ، لتجدها عند باب منزلها و هي تحاول الاقتراب منها ، فاستنفذت الطفلة كل قوتها لتسرع اكثر و أكثر حتي هربت من العجوز التي توقفت لعجزها عن إدراك الطفلة.
حمدت الطفلة الله بعد أن وصلت إلي بيت اقاربها ، ثم قضت معهم بضع ساعات ، إلي أن حان وقت الرحيل ، و هي في الطريق عائدة إلي منزلها اخذت تدعو الله ان يكون الطريق الاخر قد تم الانتهاء منه لتعبر عبره ، حتي لا تكرر تلك التجربة المخيفة مرة أخري.
وهي في الطريق ، اخذت تفكر في تلك العجوز ، إن وجهها يبدو مألوفا بعض الشئ ، انها تشبه احدا تعرفه او رأته من قبل ، لكن تصرفها و نظراتها لها تخيفها بشدة ، ثم إن... و فجأة توقفت افكارها عند هذه النقطة عندما رأت الطريق الاخر الذي لا يصلح للعبور فيه بتاتا ، للأسف لم تنتهي تلك الإصلاحات فيه ...
وقفت حائرة تنظر إليه ثم إلي الطريق الاول ، الذي يلوح فيه بيت العجوز من بعيد ، هل تعود إلي بيت خالتها ، لكن سيقلق والداها عليها ، اخذت تفكر سريعا بينما شارفت الشمس علي المغيب ، و لابد أن تقطع بقية الطريق المتبقية قبل ان يحل الظلام ، وإلا ستجد نفسها وحيدة في الطريق إلا من بعض الاشجار علي جانبي الطريق ، و بعض أعمدة الكهرباء اللعينة التي غالبا ما لا تقوم بعملها كما يجب في هذا الظلام.
اتخذت قرارها سريعا مرة اخري لتمضي في الطريق الذي تكرهه ، نعم ، و ما المشكلة ؟ سيحدث مثل ما حدث ، ستمشي قليلا إلي ان تصل إلي بيت العجوز و تعدو سريعا بجواره ، و هي بالتأكيد لن تلحق بها كما حدث في المرة الاولي ثم تصل لمنزلها و ينتهي الامر.
اخذت تسير و المنزل يقترب و يقترب ، فإنطلقت تركض عندما اصبحت قرب المنزل ، و لما عبرته ، اختلست نظرة إليه لكنها لم تجد العجوز ، تعجبت من الامر ، انها كلما مرت من هنا وجدت تلك العجوز و كأنها تنتظرها لتنظر إليها تلك النظرة الغريبة ، حتي عندما تمر هي و بعض اصدقاءها الاطفال ، تشعر و كأنها تراقبها هي دون الاخرين.
استمرت الطفلة في النظر إلي المنزل و هي تعدو ، فتعثرت في حجر ملقي علي جانب الطريق فانقلبت علي وجهها و جرحت قدمها ، و غابت عن الوعي.
أفاقت الطلفة لتجد نفسها في ظلام إلا من بعض الاضواء التي تظهر من بعيد ، فأخذت تنظر يمينا و يسارا محاولة تحديد وجهتها إلي منزلها و هي تخشي من ان يؤذيها شئ في هذا الظلام ، ثم حدث اكثر مما كانت تخشاه ، لقد رأت شخصا يقترب منها و يبدو مألوفا بعض الشئ ، لا ... انه مألوفا جدا ، انها تلك العجوز ، يا إلهي ، انها لن تجد افضل من هذه الظروف لتمسك بها و تأخذها ، لقد وجدتها وحيدة في هذا الطريق المظلم.
حاولت الطفلة ان تركض لكن جرح قدمها كان يؤلمها ، فأخذت تجر قدميها سريعا قدر الامكان ، و لكن المسافة بينها و بين تلك العجوز تتقلص و تتقلص ، حتي اصبحت علي قيد خطوات منها ، حاولت الطفلة ان تصرخ ، لكن الكلمات احتبست في حلقها من شدة رعبها. و فجأة أمسكت العجوز بيدها بشدة و بدأت تسير في الطريق ، و الطفلة تحاول تخليص يديها و هي تبكي بشدة ، لكن بلا فائدة.
أدركت الطفلة أن العجوز تقودها إلي ذلك المنزل الذي تكرهه .. منزل العجوز ، و هي لا تعلم ما سيحل بها هناك. انها حتي لا تري إلي أين تسير بها من شدة الظلام و الدموع في عينيها تشوش رؤيتها أكثر ، حاولت ان تتخلص مرارا من قبضة المرأة العجوز التي اصبحت تجرها جرا إلي مقصدها.
وصلت العجوز إلي المنزل و إتجهت إلي الباب و هي ممسكة الطفلة من يدها ، لتري الطفلة من وراء دموعها منزلا مألوفا ،... لكن مهلا ... هذا المنزل مألوف جدا ... حتي ان العجوز لم تفتح الباب مباشرة ، لقد قرعت الجرس .... عجبا ، كيف تقرع العجوز الجرس؟ أليس هذا منزل تلك العجوز؟ مسحت الطفلة دموعها بسرعة بيدها الحرة لتجد نفسها امام منزلها.. منزل الطفلة .. منزلها هي و والديها.
فُتح الباب ليظهر خلفه والد و والدة الطفلة الذان وقفا يحدقان لوهله بإبنتهما و بالعجوز التي افلتت يد الطفلة ، فتفجرت دموع الطفلة و انطلقت لترتمي علي صدر أمها التي ضمتها إليها بشدة و هي تبكي ، قائلة: "أين كنتي يا بنيتي؟ لقد قلقنا عليك كثيرا".
همت العجوز بالانصراف ، فهتف بها والد الطفلة: "أمي !!!" ، استدارت العجوز له ، فقال: "شكرا لكي" ، قالت: "لا عليك يا بني" . استدارت مرة اخري لتنصرف ، فاستوقفها قائلا: "أمي ... سامحيني علي كل ما بدر مني ، لقد أخطأت في حقك و حق أبي رحمه الله كل هذه السنين و كنت اظن اني علي حق ، سامحيني" ، قالت: "لقد سامحتك يا بني ، منذ زمن طويل" ، فأقبل عليها يُقبــّـل يديها ، ثم اشار بيده إلي المنزل قائلا: "تفضلي يا أماه" ، اتجهت العجوز إلي الطفلة و مالت عليها لتطبع قبلة حارة علي جبينها ، ثم دخلوا جميعا إلي داخل المنزل ، و الطفلة مندهشة و تحاول إدراك ما حدث.
فيما بعد...
انطلقت الطفلة وهي تودع أمها ذاهبة لزيارة خالتها ، لتسير في الطريق بكل ثقة و لهفة ، لقد اصبح ذلك الطريق طريقها المفضل ، بعد ان أضافت إليه محطة خاصة ، محطة كانت تخشاها فيما مضي ، لكن الآن اصبحت تشتاق إلي أن تمر عليها و تمكث بها بعض الوقت ، انه ذلك البيت الذي كانت تخاف المرور من أمامه ... بيت جدتها.